فصل: مَنْشَأُ فِكْرَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَسَبَبُهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يَرْوِ غَلِيلَ الْعَصَبِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ التُّورَانِيَّةِ، وَلَمْ يَذْهَبْ بِحِقْدِهَا عَلَى الرَّابِطَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَآدَابِهَا الدِّينِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ كَانَ مِنْ كَيْدِهَا لَهَا السَّعْيُ لِإِزَالَةِ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنْ نَفْسِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ وَلِسَانِهِ، وَعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ؛ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ سَلَّهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، بِمَعُونَةِ التَّرْبِيَةِ الْجَدِيدَةِ وَالتَّعْلِيمِ الْعَامِّ، بَلْ عَمَدُوا إِلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ، الثَّابِتِ أَصْلُهَا، الرَّاسِخِ فِي أَرْضِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ عِرْقُهَا، الْمُمْتَدِّ فِي أَعَالِي السَّمَاءِ فَرْعُهَا، الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، عَمَدُوا إِلَيْهَا لِاجْتِثَاثِ أَصْلِهَا وَاقْتِلَاعِ جِذْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ مِنَ الْتِحَاءِ عُودِهَا، وَامْتِلَاخِ أُمْلُودِهَا، وَخَضْدِ شَوْكَتِهَا وَعَضْدِ خَصْلَتِهَا، بَعْدَ أَنْ نَعِمُوا بِضْعَةَ قُرُونٍ بِثَمَرَتِهَا، وَإِنَّمَا تِلْكَ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ الْحَكِيمُ الْمَجِيدُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ، هِيَ الزَّيْتُونَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِأَنَّهَا لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، فَإِذَا مَسَّتْهُ نَارُ الْإِيمَانِ بِحَرَارَتِهَا اشْتَعَلَ نُورًا عَلَى نُورٍ {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (24: 35).
وَإِنَّمَا أَعْنِي بِقَطْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مُحَاوَلَةَ حِرْمَانِهِ مِنْهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ تَرْجَمُوا الْقُرْآنَ بِالتُّرْكِيَّةِ لَا لِيَفْهَمَهُ التُّرْكُ، فَإِنَّ تَفَاسِيرَهُ بِلُغَتِهِمْ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مِنْ مَقَاصِدِ إِبْطَالِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ إِبْطَالُ دِرَاسَتِهَا-أَيِ التَّفَاسِيرِ حَتَّى التُّرْكِيَّةِ- وَحَظْرِ مُدَارَسَةِ كُتُبِ السَّنَةِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهَا مَشْحُونَةٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَشَوَاهِدِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُمْ يُرِيدُونَ مَحْوَ كُلِّ مَا هُوَ عَرَبِيٌّ مِنَ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ، وَمِنْ أَنْفُسِ الْأُمَّةِ التُّرْكِيَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَلَّفُوا جَمْعِيَّةً خَاصَّةً لِمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِتَطْهِيرِ اللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ مِنَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاقْتِرَاحِ بَعْضِهِمْ كِتَابَةَ لُغَتِهِمْ بِالْحُرُوفِ اللَّاتِينِيَّةِ، وَإِذَا طَالَ أَمَدُ نُفُوذِ الْمَلَاحِدَةِ فِي هَذَا الشَّعْبِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُمْ سَيُنَفِّذُونَ هَذَا الِاقْتِرَاحَ قَطْعًا كَمَا نَفَّذُوا غَيْرَهُ حَتَّى اسْتِبْدَالَ قُرْآنٍ تُرْكِيٍّ بِلُغَةِ بَعْضِ مَلَاحِدَةِ التُّورَانِيِّينَ، بِالْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، الْمُتَعَبَّدِ بِأَلْفَاظِهِ الْعَرَبِيَّةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُعْجِزِ بِبَلَاغَتِهِ الْعَرَبِيَّةِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِينَ، وَكَوْنِهِ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَرَأَيْتَ أَيُّهَا الْقَارِئُ هَذَا الْخَطْبَ الْعَظِيمَ؟ أَرَأَيْتَ هَذَا الْبَلَاءَ الْمُبِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْجَرْأَةَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ أَرَأَيْتَ هَذِهِ الصَّدْمَةَ لِدِينِ اللهِ الْقَوِيمِ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ هَذَا الشَّنَآنَ وَالِاحْتِقَارَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؟ وَرَفْضَ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مُدَّةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفٍ؟ ثُمَّ أَرَأَيْتَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي مِصْرَ أَعْرَفِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ!.
لَقَدْ كَانَ مِنْ تَأْثِيرٍ ذَلِكَ مَا هُوَ أَقْوَى الْبَرَاهِينِ، عَلَى فَوْضَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَاخْتِلَالِ الْمَنْطِقِ وَفَسَادِ التَّعْلِيمِ، وَالْجَهْلِ الْفَاضِحِ بِضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ وَشُئُونِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَثَرُ ذَلِكَ الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ، وَتَعَارُضِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَسْوِيدِ الصَّحَائِفِ الْمُنَشَّرَةِ، بِمِثْلِ مَا شَوَّهُوهَا بِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ أَبْعَدَ عَنْ أَهْوَاءِ الْخِلَافِ، لِلنُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِيهَا، وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ شُذُوذِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ وَالْفِرَقِ حَتَّى الْمُبْتَدَعَةِ عَنْهَا، فَقَدْ كَثُرَ الْخِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي الدِّينِ، وَتَعَدَّدَتِ الْأَحْزَابُ وَالشِّيَعُ فِي الْمُسْلِمِينَ، عَلَى مَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَارْتَدَّ بَعْضُ الْفِرَقِ عَنِ الدِّينِ، بِضُرُوبٍ مِنْ فَاسِدِ التَّأْوِيلِ، وَسَخَافَاتٍ مِنْ أَبَاطِيلِ التَّحْرِيفِ، كَمَا فَعَلَ زَنَادِقَةُ الْبَاطِنِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ، قَبْلَ أَنْ يَقْوُوا وَيُصَرِّحُوا بِكُفْرِهِمْ، وَلَمْ تَقُمْ فِرْقَةٌ تَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَلَا ضَلَّتْ طَائِفَةٌ بِتَرْجَمَةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَالْآذَانِ؛ لِأَجْلِ الِاسْتِغْنَاءِ بِهَا فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ، عَنِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنَّمَا قُصَارَى مَا وَقَعَ مِنَ الْخِلَافِ فِيمَا حَوْلَ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِنْ تَصْوِيرِ الْفُقَهَاءِ لِلْوَقَائِعِ النَّادِرَةِ، أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَعْجَمِيٌّ مَثَلًا، وَأَرَدْنَا تَعْلِيمَهُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِسَانُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِأَلْفَاظِ الْفَاتِحَةِ فَهَلْ يُصَلِّي بِمَعَانِيهَا مِنْ لُغَتِهِ، أَمْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَذْكَارِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَأْثُورَةِ مُؤَقَّتًا رَيْثَمَا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ كَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، أَمْ يُصَلِّيَ بِتَرْجَمَةِ الْفَاتِحَةِ بِلُغَتِهِ؟ نُقِلَ الْقَوْلُ الْأَخِيرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ مَعَ مُخَالَفَةِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، وَمَا يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَمِلَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ وَلَا فِي قَوْلِهِ، غَيْرَ الْمَعْصُومِ فَكَانَ هَذَا الْإِجْمَاعُ الْعَامُّ المُطْلَقُ مِمَّا يُؤَيِّدُ حَفِظَ اللهِ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَأَرَادَ مَلَاحِدَةُ التُّرْكِ أَنْ يُبْطِلُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (سُورَةُ الصَّفِّ 61: 8، 9).

.مَنْشَأُ فِكْرَةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَسَبَبُهَا:

لَقَدْ كَانَ ضَعْفُ الْخِلَافَةِ الْقُرَشِيَّةِ بِجَهْلِ الْخُلَفَاءِ وَتَرَفِهِمْ وَفِسْقِهِمْ سَبَبًا لِتَفَرُّقِ الْمُسْلِمِينَ فَتَخَاذُلِهِمْ فَضَعْفِهِمْ، إِذْ كَانَ سَبَبًا لِتَأْسِيسِ عِدَّةِ دُوَلٍ إِسْلَامِيَّةٍ تَتَنَازَعُ السُّلْطَةَ، وَلِضَعْفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَرْكِ الْأَعَاجِمِ، فَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى تَرْجَمَةِ بَعْضِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، وَتَدْرِيسِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا بِالتَّرْجَمَةِ، فَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ بِلُغَاتِهِمْ لِأَجْلِ فَهْمِهِ بِالْإِجْمَالِ، ثُمَّ بِالْحَاجَةِ إِلَى تَرْجَمَتِهِ بِسَائِرِ اللُّغَاتِ لِأَجْلِ الدَّعْوَةِ بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَمَّا انْفَرَدَتْ دَوْلَةُ التُّرْكِ الْعُثْمَانِيِّينَ دُونَ سَائِرِ دُوَلِ الْأَعَاجِمِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِجَعْلِ لُغَتِهِمْ رَسْمِيَّةً لَهَا، ثُمَّ بِادِّعَاءِ مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ لِسُلْطَانِهَا اقْتَضَى ذَلِكَ تَعَمُّدَ هَذِهِ الدَّوْلَةِ لِإِضْعَافِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِمُعَادَاتِهَا، وَلِتَفْضِيلِ لُغَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ عَلَى لُغَةِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ رَسُولِهِمْ، ثُمَّ لِتَفْضِيلِ رَابِطَةِ جِنْسِهِمْ وَلُغَتِهِمْ عَلَى رَابِطَةِ دِينِهِمْ، ثُمَّ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ هَذَا بِتِلْكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَتْ جَامِعَةُ اللُّغَةِ وَالْقَوْمِيَّةِ مُعَارِضَةً لِلْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَبَبًا لِمُعَادَاتِهَا. ثُمَّ تَجَدَّدَ لِدُعَاةِ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ التُّرْكِيَّةِ سَبَبٌ آخَرُ لِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّمْهِيدُ بِهِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا إِلَّا التُّرْكُ الَّذِينَ نَالُوا بِالْإِسْلَامِ دُونَ غَيْرِهِ مَا نَالُوا مِنَ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْكَبِيرِ.
إِنْ مَلَاحِدَةَ التُّرْكِ وَدُعَاةَ الْعَصَبِيَّةِ الْجِنْسِيَّةِ مِنْهُمْ قَدْ بَثُّوا فِي قَوْمِهِمْ فَكُرَةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللهِ تَعَالَى بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِاللِّسَانِ التُّرْكِيِّ قَبْلَ عَهْدِ الْحُرِّيَّةِ الدُّسْتُورِيَّةِ بِسِنِينَ، وَقَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا عَلَيْهِمْ قَوْلًا وَكِتَابَةً، وَأَوَّلُ مَنْ سَمِعْنَا مِنْهُ هَذَا الرَّأْيَ مُحَمَّدُ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي الَّذِي صَارَ بَعْدَ الدُّسْتُورِ مَبْعُوثًا، وَأَنْشَأَ فِي الْآسِتَانَةِ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ خِدَاعِ الْعَرَبِ وَإِضْلَالِهِمْ سَمِعْتُ هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ مِنْهُ فِي مِصْرَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِيهِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ فِي الْآسِتَانَةِ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا وَأَنْكَرْتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّالِثَ عَشَرَ.
منها قَوْلُنَا فِي (الْفَتْوَى 27 ص343 ج 5 م13 الَّذِي صَدَرَ فِي سَلْخِ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ 1327) فِي سِيَاقِ تَخْطِئَةِ مُحَمَّدِ عُبَيْد اللهِ أَفَنْدِي فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ نُشِرَ بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ:
لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي شَذَّ فِيهَا وَحْدَهَا هَذَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ لَهُ شُذُوذًا فِي مَسَائِلَ أُخْرَى دِينِيَّةٍ، وَتَارِيخِيَّةٍ كَادِّعَائِهِ أَنَّ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا تَمَّتْ وَلَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَكَادِّعَائِهِ أَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُمْكِنُهُمُ الِاسْتِغْنَاءُ فِي دِينِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى آيَةً لِلْعَالِمِينَ، مُعْجِزًا لِلْبَشَرِ عَلَى مَرِّ السِّنِينَ، بِتَرْجَمَتِهِ إِلَى التُّرْكِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ اللُّغَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَرْجِمُ يُتَرْجِمُ حَسَبَ فَهْمِهِ فَيَخْتَلِفُ مَعَ غَيْرِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ أَهْلِ لُغَةٍ قُرْآنٌ، وَإِنْ كَانَتِ التَّرْجَمَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِيهَا الْإِعْجَازُ كَالْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ التَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ سَبَقَ لِي مُنَاظَرَةٌ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ مُنْذُ سِنِينَ اهـ.
وَمِنْهَا- مَا ذَكَرْتُهُ فِي (ج 7 مِنْهُ ص 549) فِي سِيَاقِ سَمَرٍ مَعَ طَلْعَت بِك بَاشَا نَاظِرِ الدَّاخِلِيَّةِ بِدَارِهِ فِي الْآسِتَانَةِ ذَكَرَ لِي فِيهِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ سَيُنْشِئُ جَرِيدَةً عَرَبِيَّةً؛ لِأَجْلِ التَّآلُفِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالتُّرْكِ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنَّهُ يُخْشَى أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُهَا زِيَادَةَ الشِّقَاقِ لِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْعَرَبِ، وَزَعْمِهِ إِمْكَانَ اسْتِغْنَاءِ التُّرْكِ عَنْ لُغَتِهِمْ وَعَنْ قُرْآنِهِمُ الْعَرَبِيِّ بِتَرْجَمَتِهِ بِالتُّرْكِيَّةِ إِلَخْ وَكَذَلِكَ كَانَ.
وَمِنْهَا- قَوْلُنَا فِي مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى (فِي ص384 مِنْهُ): اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ-أَيِ الْمُفْسِدِينَ- مَنْ يَفُوقُ سِهَامُ كَيْدِهِ وَمَكْرِهِ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شَرَّفْتَهَا وَفَضَّلْتَهَا بِخَاتَمِ أَنْبِيَائِكِ وَرُسُلِكِ، وَخَيْرِ كُتُبِكَ الْمُنَزَّلَةِ لِهِدَايَةِ خَلْقِكَ وَخَاطَبْتَ سَلَفَهَا الصَّالِحَ بِقَوْلِكَ الْحَقِّ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (3: 110) إِلَخْ.
اللهُمَّ إِنَّهُمْ حَسَدُوهَا أَنْ جَعَلْتَ كِتَابَكَ عَرَبِيًّا مُبِينًا، فَهُمْ يُرِيدُونَ تَرْجَمَتَهُ لِيَكُونَ عُرْضَةً لِتَحْرِيفِ الْمُحَرِّفِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَّفِقِينَ، اللهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَهُ لِتَجَمَعَهُمْ عَلَيْهِ، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ تَرْجَمَتَهُ لِكُلِّ شَعْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَتَفَرَّقُوا فِيهِ، اللهُمَّ إِنَّهُ حَبْلُكَ الْمَتِينُ الَّذِي أَمَرَتْنَا أَنْ نَعْتَصِمَ بِهِ وَلَا نَتَفَرَّقَ عَنْهُ بِقَوْلِكَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3: 103) وَهُوَ بَيِّنَاتُكَ الَّتِي قُلْتَ فِيهَا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينِ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3: 105).
اللهُمَّ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ رِسَالَةَ خَاتَمِ رُسُلِكَ مَا تَمَّتْ إِلَى الْآنِ. وَأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنْتِ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5: 3).
وَمِنْهَا- قَوْلُنَا فِي آخِرِ الْفَتْوَى 32 مِنْهُ (ص571) فِي سِيَاقِ الدَّعْوَةِ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: وَلَا يَتِمُّ هَذَا الِاهْتِدَاءُ إِلَّا بِالْعِنَايَةِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا شَيْءَ أَضَرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِيَسْتَغْنِيَ الْمُسْلِمُونَ بِالتَّرْجَمَةِ عَنِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. فَالْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ إِذَا وَقَعَتْ لَا سَمَحَ اللهُ أَنْ يَكُونَ الْأَعَاجِمُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عُرْضَةً لِتَرْكِ الدِّينِ. وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى اهـ.
وَقَدْ رَاجَتْ دَعْوَةُ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ بَعْدَ قَبْضِ مَلَاحِدَةِ جَمْعِيَّةِ الِاتِّحَادِ وَالتَّرَقِّي عَلَى أَعِنَّةِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، تَمْهِيدًا مِنْهُمْ لِمَا نَفَّذَهُ أَنْدَادُهُمُ الْكَمَالِيُّونَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ نَبْذِ الدَّوْلَةِ التُّرْكِيَّةِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَسَعْيِهَا لِسَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنْهُ أَيْضًا.
وَقَدْ كَانَ مِمَّا نَشَرَ الِاتِّحَادِيُّونَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُمَهِّدَةِ لِهَذَا السَّبِيلِ كِتَابُ قَوْمٍ جَدِيدٌ الَّذِي انْتَقَدْنَاهُ وَنَشَرْنَا تَرْجَمَةَ بَعْضِ مَسَائِلِهِ فِي الْمُجَلَّدِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ 1335) وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ قَوْمٍ جَدِيدٍ إِنْشَاءُ شَعْبٍ تُرْكِيٍّ غَيْرِ مُسْلِمٍ. وَمِمَّا قُلْنَاهُ فِي آخِرِ مُقَالٍ طَوِيلٍ مِنْهُ (ص160 ج2 م17) عُنْوَانُهُ مَفَاسِدُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فِي أَمْرِ الِاجْتِمَاعِ وَالدِّينِ مَا نَصُّهُ: يَرَى هَؤُلَاءِ الْعَامِلُونَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِهِمْ عَقَبَةٌ تَحُولُ دُونَ بُلُوغِ الْمَقْصِدِ بِالسُّرْعَةِ الَّتِي يَبْغُونَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْعَمَلِ إِلَّا حَاجَةَ التُّرْكِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَجْلِ الدِّينِ. وَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ وَلُغَتَهُ مِمَّا يُعِيقُ تَكْوِينَ أُمَّةٍ تُرْكِيَّةٍ مَحْضَةٍ عَلَى الطِّرَازِ الْإِفْرِنْجِيِّ الْفَرَنْسِيِّ، فَاجْتَهَدُوا فِي إِزَالَةِ هَذَا الْمَانِعِ بِمُزِيلَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) تَرْجَمَةُ الْقُرْآنِ بِالتُّرْكِيَّةِ، وَدَعْوَةُ التُّرْكِ إِلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِمَا سَمَّوْهُ الْقُرْآنَ التُّرْكِيَّ، وَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنِ الْقُرْآنِ يَسْتَغْنُونَ بِالْأَوْلَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْعَرَبِيَّةِ.
(الثَّانِي) نَشْرُ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الَّتِي تَجْعَلُ الْجِنْسِيَّةَ التُّرْكِيَّةَ أَعْلَى وَأَسْمَى فِي النُّفُوسِ مِنْ رَابِطَةِ الدِّينِ تَمْهِيدًا لِلثَّانِيَةِ بِالْأُولَى....
وَذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ كِتَابَ قَوْمٍ جَدِيدٍ وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضِ مَفَاسِدِهِ ثُمَّ نَشَرْنَا نَمُوذَجًا مِنْ كِتَابِ قَوْمٍ جَدِيدٍ هَذَا فِي (ص539- 544 مِنْهُ) أَوَّلُهُ قَوْلُهُ فِي (ص14 مِنْهُ):
يَجِبُ تَعْطِيلُ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّكَايَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْآسِتَانَةِ مَا عَدَّا الْجَوَامِعِ الَّتِي بَنَاهَا السَّلَاطِينُ وَتَخْصِيصُ نَفَقَاتِهَا بِالشِّئُونِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ النَّبَوِيَّةِ (؟) وَيَلِيهِ قَوْلُهُ فِي ص15 بِفَرْضِيَّةِ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ.
وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِفَاتِ مَنْ سَمَّاهُمْ قَوْمٌ عَتِيقٌ مِنْ تَمَسُّكِهِمْ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَالْعَمَلِ بِكُتُبِ فِقْهِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي وَصَفَهَا بِأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ بِالنِّفَاقِ وَالشِّقَاقِ، وَزَعَمَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ- ثُمَّ قَالَ فِي صِفَاتٍ قَوْمٍ جَدِيدٍ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْقَوْمُ الْجَدِيدُ فَإِنَّهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الْقَدِيمَةِ، بَلِ اسْتَخْرَجُوا مِنَ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْحَدِيثِيَّةِ الْأَرْكَانَ الدِّينِيَّةَ الْآتِيَةَ:
(1) الْعَقْلَ.
(2) كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ.
(3) الْأَخْلَاقَ الْحَسَنَةَ.
(4) الْجِهَادَ مَالًا وَبَدَنًا وَالْحَرْبَ.